كلمةٌ هي أول ما قرع الأسماع من كتاب الله المقدّس، وهي أول عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالوحي، وهي الواصلة التي وصلت الأرض بخبر السماء، هي مِفتاح العلوم، وغذاء الفهوم، وباب الفقه في الدين، ووسيلة من وسائل التدبر والتفكر، وآية تدل على التحضر.
هي الكلمة التي عزّت بها الأمة حين أخذتها بقوة، ثم ضعفت وتخلفت حين تشاغلت عنها وجعلتها من فضول حياتها.
ماذا عساها أن تكون هذه الكلمة؟! وماذا عساه أن يكون قدْرُها في نظرنا؟! وماذا عساها أن تكون هذه الكلمة إن لم تكن هي تلك الكلمة التي رجف لها فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم أول مرة؛ إذ جاءته بما لم يعهده من قبل، فاستفتح بها حياة جديدة، فكانت فاتحةَ بعثته، وأولَ ما قرع سمعه من وحي ربه: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ» [العلق:1،2،3].
إن أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالقراءة، هو أمر لأمته بها؛ لأنه قدوتها وإمامها، ولكن القراءة التي أُمر بها أخصّ من القراءة التي أُمرت بها أمتُه؛ فقراءته كانت في تلاوة لما يُلقى إليه من كتاب ربه؛ وقد أغناه الله بما أوحى إليه من الكتاب والحكمة عن تتبع مكتوبِ الحكمة، فكان هو المعلّم الأول للكتاب والحكمة، ففتح الله به قلوبًا غلفًا وأعينًا عميًا وآذانًا صمًّا.
نعم! كان عليه الصلاة والسلام أميًا لا يقرأ ولا يكتب؛ ولكن لم يكن ذلك لفضلٍ في الأمية، وإنما لحكمته تقتضيها رسالته: «وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ»[العنكبوت:48]، فلو كان قارئًا كاتبًا إذًا لشك المرتابون المبطلون أن يكون قد تلقّف ما في القرآن من القصص والنبوآت بالقراءة في كتب أهل الكتاب، أو بكتابةِ ما يملونه عليه من علومهم ، فجعل الله أميّتُه آيةً على صدق رسالته التي حوت من القصص والغيبيات ما يشهد له بالصدق أهلُ الكتاب بما خبروه في التوراة والإنجيل وكُتبِ علمائهم...
ولم تكن أميته عليه الصلاة والسلام لتحجبه عن معين العلم والحكمة؛ فقد حاز أشرف العلوم وأبلغ الحِكَم بما آتاه الله من الكتاب والحكمة، فلم يورِّث دينارًا ولا درهمًا ولكن ورَّث العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر.
أما أمته فلا طريق لها للنهل من معين الحكمة إلا بالقراءة في مظانِّها، فإنها لم تتوارث العلم والحكمة والمعرفة إلا بمدوَّناتٍ كتبتْ لتقرأها الأجيالُ؛ جيلاً بعد جيل، وقد أشار الله إلى هذا النوع من القراءة في قوله من السورة نفسها: «اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ» [العلق:3،4]، وما التعليم بالقلم إلا بقراءة ما يخطّه من مدونات العلوم والحكم.
وإننا إذ نستدل من آيات الله تعالى على شرف القراءة وأهميتها، فعلينا ألا نغفل عما تُلمح إليه تلك الآياتُ من أشرف ما يؤمر بقراءته، ولا يليق ونحن نتحاضّ على القراءة أن نتجاوز الأشرفَ والأكمل إلى ما دونه من المقروءات، وإن من أبلغ العَجَب أن نستدل بالآيات على أهمية القراءة، ثم لا يكون لكتاب الله حظٌ مما ندعو إليه الناسَ من الحض على القراءة، أفليس القرآن هو معين الحكمة وأمثل غذاء للفِكر، وأشفى دواء لما في الصدور؟!
ربما ذَهل بعضهم -وهو يدعو إلى القراءة- عن أن يجعل للقرآن والسنة من دعوته نصيبًا؛ لأنه لا يتصور القرآن إلا كتابًا قد أحكمت آياتُه للوعظ، وفصّلت في حكاية القصص، ولا يتصور السنة المدونة إلا مواعظَ وأوامرَ ونواهٍ وآدابًا، ويغفل عن أن الرسول قد أوتي الحكمة كما أوتي الكتاب: «يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ»[آل عمران:164].
ومن رُزقَ شمول النظر إلى حقائق القرآن والسنة أدرك يقينًا أنهما هما معين الحكمة، وأن أسس الحضارة متوافرة فيهما، وأن معايير الثقافة والتحضر من الآداب والأخلاق مزبورةٌ فيهما، فهي لم تتنـزل لترقق القلوب فحسب، ولا لتخاطب العاطفة وحدها، ولكنها تخاطب العقل والعاطفة، وتحرض الفِكَر والنظر.
وليست القراءة المعنية هي مطلق القراءة، إنما هي قراءة التدبر والتفكّر، بقلب وفِكرٍ حاضرَين، أما قراءة الهذّ فلا تهب حكمة ولا معرفة ولا فكرًا.
على أن الإسلام لم يمنعنا أن نتتبع وجوه الحكمة من مظانها المتباعدة، ولا أن نقصر أفهامنا على ما فيهما من الآيات والحِكَم؛ فالحكمة ضالة المؤمن، أنّى وجدها فهو أحق بها.
إن القراءة مسبار يسبر درجة كل أمة من التحضر، فأمة لا تقرأ لا تستأهل أن تكون أمةَ حضارة، وعقولٌ لا تتغذى بالقراءة جديرة أن تكون ساذجة التفكير، معطّلةً عن الإبداع، عاجزةً عن التغيير. وإذا أردت أن ترى منزلة أمة من الأمم من الحضارة، وتقيسَ حظها من الثقافة، فانظر إلى منزلة القراءة فيها، وموضعِها من سلم اهتماماتها.