مساء الورد
والله دروت لك وبحثت
وان شاء الله اللي لقيته يفيدك
أولا _ بالنسبة إلى ظروف الشاعر والوضع العام للدولة آنذاك :
كان الشاعر " جرير " زبيري الهوى ، بمعنى أنه كان يعلن ولاءه للخليفـة الشرعي " عبد الله بن الزبير الذي حكم تسع سنوات ، واعترفت بخلافته الشعوب ، إلا الأمويين ومـن بسطوا سلطانهم عليهم عن طريق الحروب ، وكان جرير- بعـد استشهـاد الخليفة الشرعي وانتزاع السلطة من الزبيريين ، واستخلاف عبد الملك بن مروان قد أعرض عن قاتل الخليفة الشرعي ، فعاش في ضنك العيش - كما أشار في القصيدة إبان حديثه عن زوجته أم حرزة ، وطلبه الإغاثة من عبد الملك - فاضطر تحت ضغط لقمة العيش أن يلجأ إلى الحجاج ليعينه على العيش ، فرأى هذا مقدمه غنيمة للسلطة الحاكمة ، لأن الشاعر يمثل آنذاك الوجه الإعلامي للدولة ، وكان عبد الملك بن مروان يقرب إليه الشاعر الأخطل التغلبي النصراني ، وكان هذا يدخل عليه والصليب في رقبته ورائحة الخمر تفوح منه ، كما أورد صاحب الأغاني ، وكان هذا يؤلم الخليفة المسلم ، ويتمنى لو أتيح له مثل جرير ليشيد به وبدولته ، فيتخلى به عن الأخطل الذي يؤذي مشاعره ، ويعرضه للنقد ،وشاء القدر أن يأتيه طلبه ، إذ اغتنم الحجاج مقدم "جرير " إليه ليقنعه باللجوء إلى عبد الملك …ولعله اقتنع ووجد أن الأفضل له وللدولة أن يتقرب من حاكمها ابن مروان .
ويقال إنه لما دخل على عبد الملك أنشده قصيدته التي تحوي بيت القصيد
" ألستم خير من ركب المطايا … "
وقد استهلها بمطلع غزلي ، وكان أول كلمة فيها :
أتصحو ، أم فؤادك غير صاح
عشية همّ صحبك بالرواح
فلما طرق مسمعي عبد الملك هذا الاستهلال أنكره بحسه العربي المرهف ، ورمى الشاعر بدواة كانت في يده ، ولكن جريراً تظاهر باللامبالاة وتابع قوله ، لأنه يعرف الأمر ونتائجه ، والظرف الذي هو فيه ، واستمر ينشد بنبرته الخطابية الموجهة إلى عبد الملك حتى وصل إلى قوله :
ألستم خير من ركب المطايا …
ثم عرَّض بمناوئيه ، فسري عن عبد الملك وكافأه .
ثانيا : وبناء على هذا ، وبعد دراسة المعاني والصور التي استخدمها جرير في قصيدته أرى أن عاطفة جرير كانت غير صادقة لأنه :
1 - أبدى التكلف في المديح منذ أن قال لعبد الملك " أتصحو " ثم كرر هذا المعنى بقوله " بل فؤادك غير صاح " ليؤكد معنى الغفلة ، فكأن عبد الملك غفل عن آخرته حينما طمع بالخلافة ، وقتل الخليفة الشرعي ، ثم قرب منه الشاعر النصراني .
صحيح أنه أتبع المطلع بما يشير إلى الغزل بقوله :
أتصحو بل فؤادك غير صاح
عشية هم صحبك بالرواح
ليشير إلى حزنه لفـراق صاحبته ، وتأثره لرحيل الظعينة ، لكنها على أي حال الكلمة الأولى التي سمعها عبد الملك من جرير ، عدوه القادم إليه ، وقد جاءت موجهة إليه مباشرة ، وهذا لايليق بمقام خليفة لأكبر دولة في العالم آنذاك ، فضلا عن أن المطلع الغزلي هو رمـز ينم عما يعتلج في صدر الشاعر ، فالخائف يبدي في غزله خوفه ، وذو الهمّ يشير في مقدمته إلى من سبَّـب له الهمَّ و… ، واقرأ إن شئت مطالع الجاهلييـن في معلقاتهم أمثال النابغة الذبياني وزهير بن أبي سلمى وامرئ القيس تجد مصداق ذلك .
2_ تحدث جرير في مقدمة قصيدته عن رحيل الظعائن وذكر أن صاحباته قد سلمت عقائدهن وسلوكياتهن من التعميد ، وذلك في قوله :
يكلفنـي فؤادي من هـواه
ظعائن يجتزِعْن على رُماح
ظعائن لم يدِنَّ مع النصارى
ولا يدرين ما سمَك القَـراح
والتحدث عن العقائد أمر غير مألوف في مقدمة القصيدة العربية ، وهو أيضاً غير مألوف من شاعر مسلم في دولة إسلامية لا تؤذي عادة مشاعر النصارى لولا أن صاحبها أراد التعريض بشاعر الخليفة ، الأخطل ، فكأنه يعرض من طرف خفي بسلوك الخليفة الذي قربه إليه ، أو كأنه يقول له : إذا كانت النساء المسلمات يرفضن النصرانية وتعميدها فالأولى بك رجلا وخليفة للمسلمين أن تنكر هذا وتبطله ، وها قد آن الأوان بمجيئي إليك فأنا أعوض عن شاعرك .
3_ ثم قال له بعد ذلك :
فبعض الماء ماء رباب مُزن
وبعض الماء من سبخ ملاح
وقد شرح محقق ديوانه ذلك فقال :" إن البدويات يفضلن الحضريات : كما يفضل الماء العذب الماء المالح " ولكني أرى رأياً آخر، إذ ما علاقة هذا التفضيل بسياق القصيدة ؟
إن هذا البيت والذي سبقه يشكلان تشبيها ضمنيا يشير إلى تنديد الشاعر بالأخطل منافسه على القصر ، ولكن من طرف خفي ، فكأن المسلمات "رمز الشاعر"كالماء الزلال ، وغيرهن " رمز الأخطل " خلاف ذلك لأنهن يعمدن بماء تمجه النفس .
4 - ثم تابع جرير :
سيكفيك العواذل أرحبـيٌّ
هِجان اللون كالفَـرَد اللَّـياح
يعز على الطريق بمنكبيه
كما ابترك الخليع على القداح
وفي تصوير الفرس تلقانا صورتان :
أ - مادية : تمكنه من الوصول إلى الخليفة ، فهو فرس عربي أصيل ومن خيرة الخيـول العربية ، أبيض اللون ، ضخم الجسم يحسبه الناظر إليه كجبل أبيض ، وهو يكاد يسد الطريق بمنكبيه العريضين ، وبه يستطيع الذهاب إلى الخليفة في طريـق طويـل فيتخلص من لوم اللائمين ، وفي مقدمتهم زوجته التي لم تعد تحتمل الفقر
ب - ومعنوية أو نفسية : يصور فيها حاله كأنه في مقامرة يجلس أمام القداح منفعل النفس ، ولكنه خبير بأعدائه ، وقد تنجح مقامرته ،مقدمه إلى الخليفة ، وقد يخفق فيها ، وإن كانت فرصة النجاح أكبر ، لأنه شاعر ملازم لهذا العمل خبير به ، وخبير بالكلمـة ولسوف يقدمها لعبد الملك ليجمل فيها موقفه الجديد منه .
5 - وينتقل جرير بعد ذلك إلى شرح حاله التي اضطرته إلى القدوم إلى الخليفة الجديد ، وتغيير خطه السياسي منه ،فهو وتحت ضغط زوجه التي أجهدها ضنك العيش ، وإزاء إحساسه بالفقر الشديد ومعاناة الأسرة ، لجأ إلى الخليفة عبد الملك بن مروان ، وهنا يلتقط الشاعر صورته من قصة الخليفة عمر بن الخطاب والمرأة التي كانت توهم أولادها الجياع بأنها تطبخ لهم بوضع الحجارة في الماء وإيقاد النار عليها … ويصور أولاده كذلك وقد انكبوا على قدر لاطعام فيه إلا الحجر ، في جو بارد تتصاعد فيه أنفاسهم فتبدو ظاهرة للعيان كبخار يتصاعد ، يقول في ذلك :
تعزّتْ أم حَرْزَةَ ثم قالت
رأيت الواردين ذوي امتياح
تعلِّل وهي ساغبـة بنيها
بأنفـاس من الشَّبِم القَـراح
سأمتاح البحور فجنِّـبيني
أذاة اللوم وانتظري امتياحي
وكأنه يقول لزوجته : كفي عن اللوم لأنني سأرد البحور لأنال من عطاياها ، وإن كان هذا يؤلمني ، وانتظري ، وسأذهب في المستقبل القريب ، وهذا يوحي بأنه لايزال في نفسه شيء ما جعله لا يسرع في الذهاب إليه ، ولا ننسى أنه كان منذ عهد قريب عدوا له ، وفي كلمة " البحور " إيحاء بأن الممدوح قد يكون الخليفة ، وقد يكون غيره ، فأي امرئ كفاه مؤنة العيش وهمَّ الحياة فهو البحر الذي يغرف منه .
6 - ثم قال :
أغثني يا فداك أبي وأمي
بسَيْب منك إنك ذو ارتياح..
ووسط البحر الوافر ذي الإيقاعات المناسبة للاضطرابات النفسية ، وروي الحاء الذي يوحي بالتعب حتى البحة ، يطلب الشاعر من الخليفة عطاء بفعل الأمر " أغثني " وفي هذا تعريض آخر ، ولا سيما أنه صرح بالحاجة ، وكأنه خاف ألا يعطيه الخليفة …ثم قال له : "إنك ذو ارتياح " ولعمري إنها كلمة لاتقال لكريم إذ يكفي هذا التلميح لا التصريح ,,,
7 - ثم قال له :
فإني قد رأيت علي حقا زيارتي الخليفة وامتداحي
فالقضية عنده قضية حق وواجب لا قضية إعجاب بفعال الخليفة ولا مودة بينهما تستدعي الثناء عليه …
8 - ثم قال :
سأشكر إن رددت علي ريشي
وأنبت القوادم في جناحي
وفي رواية " وأثبت القوادم " ، فالشكر إذا معلق بالشرط ، فلا شكر بلا مال يقدمه الخليفة ، فإن فعل وأغنى الشاعر استحق المديح ، والسين وهي " للاستقبال " توحي بأن المديح الحق سيكون فيما بعد ولكن " إن " توحي بالشك فكأنـه يشكك بعطاء الخليفة ، ولهذا فلن يكثر مـن مديحه له الآن ، وفي هذا تجريح آخر له .
9 - ثم قال بعد المقدمات السالفة :
ألستم خير من ركب المطايا
وأندى العالمين بطون راح
وهو البيت الذي طرب له عبد الملك وكافأه من أجله بعدما قال : "من كان يمدحني فليمدحني بمثل ما مدح به جرير " ولكني أرى أن الخليفة العربي الفصيح لم يغرب عن باله ماقاله جرير فيما سبق ، وكأنه يقول له ها أنا جاهز لاستقبالك شاعرا لي ، ولا سيما أن القصيدة حوت بعد ذلك تنديدا بالمنشقين على عبد الملك ، وإشادة بنسب عبد الملك القرشي الذي أهّـله للخلافة ، لقد تناسى الخليفة ما سبق إزاء التعريض بمناوئيه وإثبات حقه في الخلافة ، وهذا ما كان يريده ويسعى إليه ، وهذا ما كان الأخطل يفعله ، وها هو الآن يرى أمامه من هو يفوقه شاعرية فليغتنم الفرصة وليجعله شاعره الخاص، ولهذا رضي من جرير الاعتراف ولو المبدئي به ، ولسوف ينسل من نفسه الضغينة بما سيقدمه له ، ولا سيما أن منافسه ابن الزبير قد واراه الثرى .